السبت، 20 يونيو 2015

"لييته" ما علينا .. في ألعاب زمننا الجميل



"لتعلم أنّ هذا الجيل في أزمة .. إسأل نفسك متى كانت آخر مرة رأيت فيها كورة شرّاب" -  مفكر سوداني مجهول!

"ليييته ما علينا" .. عندما يهتف يها أحدنا جذلاً ماطّاً حروفها ما شاء الله له أن يمط، يضيف إليها أحيانا "لا رجوع"، كانت إشارة على حدثٍ مهم، وهو إكمال فريق الصّائح رصّ عمود علب الصلصة قبل "موتهم" أجمعين .. تبدأ الحكاية بكرة الشراب و قد أصابت العمود المكوّن من عِلب الصلصة الصغيرة الحمراء فمزّقته شرّ ممزق و بعثرته في كلِّ مكان  .. يتفرّق بعدها أعضاء فريق الضّارب و ينتشرون في الأرض قدر ما تسمح به مساحة الزقاق المنحصر بين حيطة بيت جدي البدري وبيت ناس دكساوي، و يحاول أعضاء الفريق الخصم إصطيادهم بكرة الشّراب الواحد تلو الآخر قبل إكمالهم رصّ العليبات ..لذا كان كلّ فريق حين تحضُرنا القسمة يحرص على أن يعضّد صفوفه بمن إشتهروا بأنهم نيّاشين .. لا تملك أن تفلت من أن تصيبك كرة شراب يقذف يها أحدهم في إتجاهك مهما راوغت و جريت.. يرسلها كالصاروخ في إتجاهك فتصيبك في ظهرك و تُقذف بك خارج المنافسة ..

و "ليته"، نقولها إختصارا ل "كومبليته" –غالباً من  complete -واحدة من ألعاب عدّة شكّلت وجدان طفولتنا في الثمانينات ..نجتمع بعد الغداء في زقاقنا أو في غيره -فهم كثر- يوم ما زال الأطفال يتّخذون الشارع ملعباً و منشطاً و مكاناً للسمر و أحياناً للمذاكرة .. نجلب كور الشرّاب المصنوعة من شرابات أهلنا الموظفين بالدولة و المحشوة بالدلاقين و كلّ ما كان في متناول يد صانعها، ففي زمننا لم يكن من السّهل أن تجد شراباً قديماً في الكوشة .. فقد كان لجيلنا الفضل الكبير في "إعادة تدوير" الشرّابات و عِلب الصلصة و حجارة البطًارية و كل ما وقع في إعتقادنا صلاحه في ألعابنا ..

و لم تكن "ليته" وحدها مما نلعبه بكرة الشرّاب و عِلب الصلصة، نساهم بها في نظافة الحلة و إعادة إستهلاك قمامتها، فبكرة الشرّاب لعبنا "الصبّة"، و قد برع فيها محمد حسن و بلغ فيها شأواً جعله لا يُغلب ولا يُنافس .. فقد كان "لقّافاً" لكرة الشراب حين كونه "العولاق" .. و العولاق في لعبة "الصبّة" يكون في منتصف لاعبين يقذفانه بكرة الشرّاب .. فإذا أصابه أحدهما فقد مات .. و إن "صبّ" الكرة أي لقفها فد منح "روحاً" جديدة تتيح له الإستمرار في اللعبة .. و قد كان لبعضنا كمحمد إبراهيم و سيف دكساوي ضربة يتحاشاها الأشاوس ..تلقاك في ظهرك مدبراً غير مقبل "فتموت" و تخرج و يبقى الألم لساعات .. "فميتةٌ" هي و خرابُ قميصٍ و ألمٌ في الظهر ..

أما "روندسة" فقد جلبها لنا النّضيف السّر من عطبرة .. و كان جلبُها فتحاً مبيناً لما فيها من إختلاف عن نمط ألعابنا السائد حينئذ .. و أزعم أنّها تقليدٌ للرجبي أو كرة القدم الأمريكية، ينقسم فيها الناس لفريقين .. يلقي لاعبان من الفريق الأول كرة الشرّاب لضرّاب الفريق الثاني فيضربها بكل قوته في إتجاه الميدان "حوش الشوش" .. فإن لقفها لاعبو الفريق الأول يموت لاعبو الفريق الثاني المنتشرون على الخط المصنوع من الرماد أو حَفر الأرجل .. و إن سقطت يجتهد لاعبو الفريق الثاني في الجري لإدراك "الميس" قبل أن يجلبها المنافسون لمنطقة الضرّاب ..

و بعض ألعاب جيلنا – ذلك الجيل الّلاحق لجيل "شليل"- كانت محض إجتهادات يأتي بها بعضنا و نطوّرها فتنال حظّها من التجريب و النّجاح أو تمضي فلا يأسى لها أحد .. و لمحمد حسن الفضل في إتحافنا بلعبة "البيضة" و تخليص الشعديناب من حجارة البطّارية القديمة أولا بأول .. فبعد رسم ميدان كرة قدم صغير بالجير أو الرماد أو أصابعنا – حسب ما إتّفق- نقوم "برَص" حجارة البطّارية الحمراء "إفرريدي" في أماكن اللاعبين في منتصف الميدان .. و الظّهرية "نسيت إسمها" في الميدان الآخر .. و نحرّك كرة البنق بونق "هذه المرة ليست كرة شراب .. فهي للأسف أكبر من الّلازم" بأصابعنا و بعون الّلاعبين الصغار "حجارة البطارية" في إتّجاه مرمى الخصم ..

و قد برع محمد حسن في تطوير هذه اللعبة فصنع لنا عرّاضات من الأسلاك بل و كساها بشبكة صغيرة لا أدري من أين أتى بها حتى لا تهرب منّا الكرة عند إحراز الهدف .. و غنيٌّ عن القول أن محمداً كان "أحرفنا" في لعبة البيضة .. كيف وهو عرّابها الأول ..
و قد بلغ شغفنا بلعبة "البيضة" أننا قد عكفنا عليها طيلة أيام الجمع .."ندُكّ" لها صلاة الجمعة و لا نترك لها فطورها ..و كانت الجمعة حينئذ إجازتنا الوحيدة ..نجلس أمام بيت "بت رمضان" حفظها الله بالسّاعات .. لا نخاف إلّا أن يمرّ علينا أستاذ "بدوي"- حفظه الله- في طريقة للجمعة أو قادما منها ..و لأن محمد حسن كان أشطرنا و "أشفتنا" و أعلمنا ببواطن الأمور، فقد جاء لنا بخطّة تقينا غضب أستاذ بدوي على عكوفنا على اللعب و تركنا صلاة الجمعة .. فجمع لنا من ورق الفلوسكاب و أقلام الشيني ما شاء الله له أن يجمع، ثم جلسنا و شرعنا في عمل جريدة حائطية و من ثم أخفينا ما تمّ منها في زاوية في ورشة خاله فيصل، و تناوبنا في الوقوف ك"ديدبان" نواحي دكان حمزة، فإن تمّ رصد المصلّين وقد قفلوا راجعين من مسجد الشّعديناب "تحت" (و كان الوحيد وقتها) أشار إلينا فأخفينا الحجارة و العرّاضات و أخرجنا الجريدة نعكف على تحريرها في همّة و كأنّنا لبثنا في ذلك ساعات! و قد وقع المحظور و مرّ علينا أستاذ بدوي مرّة فرآنا منهمكين في كتابة "كلمة العدد" و تدبيج الصّور و تلوين الأعمدة .. فقال لنا إن عملنا طيّب و لكن لا ينبغي أن نترك له صلاة الجمعة! ولو علم ما نعلم لجلَدَنا في الطّابور صبيحة السّبت جزاءا على ما اقترفت إيدينا وفاقا.

بسيطةٌ كانت حياتنا و جميلة .. لم يُفسد صفوها الأتاري و البلي ستيشن و لم نقع حينها أسارى للشّاشات و الّلوحات صغرت أم كبرت .. تجمعنا الرُّوندسة و لعبة البيضة و "ليته" ويفرقنا آذان المغرب .. نقرأ "تختخ" و "رجل المستحيل" سرّاً في المذاكرة و نأكل الفول عند "حريقة" ليلاً..



مستعدٌّ لدفع أغلى ما أملك في سبيل أن تجمعني "لييته" مرة أخرى في زقاقنا بالشعديناب مع سيف دكساوي، محمد إبراهيم، محمد حسن، بكري قمر الدين، و الصادق ود الكبير .. سلام الله يغشاهم أين ما كانوا .. شلة الزمن الجميل ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.