الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

هل أصبحت كلية الطب خيار الأغبياء؟!


في صيف 2005 وبعد إنتهائي من الإمتياز والخدمة، كنت عاطلا عن العمل في إنتظار وظيفة لم تأت ومفلساً وفي غاية القرف. كتبت هذا المقال مخاطباً طلاب كلية الطب جامعة  الخرطوم وعلقته في أرجاء الكلية. أعيد نشره لأن الحال في حالو بل وأزفت.
الرجاء عند قراءة المقال مراعاة فروق الوقت !

الأطباء يتقاتلون على شباك المهية



أشُد على أياديكم
فمأساتي التي أحيا ..
نصيبي من مآسيكم !

(كلام كان يكتبه د. لؤي حيدر يومياً على سبورة قاعة أنيس أيام المذاكرة، ولم أدرك عمقه إلا مؤخراً)

دهش صديقي د. خالد طوكر عندما إكتشف أن سائق الركشة التي إستأجرها لتقل أمه من السوق الشعبي طبيب نائب إختصاصي حاصل على الجزء الأول من زمالة الكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والتوليدMRCOG . النائب المذكور علل لخالد عمله بالركشة لقلة الحيلة وإنعدام وظائف النواب والأطباء العموميين، ودافع عن وضعه بأنه مؤقت أملته ظروف العطالة والحاجة لجمع مال ييسر له إكمال الجزء الثاني من الزمالة ببريطانيا.

في ظل هذا الوضع الشاذ، وجلوس مئات الأطباء العموميين والنواب في قوائم الإنتظار الطويلة وتسكعهم بين شبابيك وزارة الصحة، وفي ظل الوضع المزري لممارسي الطب في هذه البلاد، يطل سؤال برأسه وما زال الكثير من طلاب الشهادة السودانية يضعون دخول كليات الطب نصب أعينهم: هل مازالت لدراسة الطب ذات البريق الأول؟ وهل مازالت أمنية الكثير من الأسر أن يتخرج أحد أبنائها طبيبا لرفع مستوى الأسرة إجتماعيا ومادياً؟

أنا شخصياً أصبحت أنظر بعين الأسى لكل الإخوة الصغار الذين مازالوا في السنين المختلفة لكليات الطب. زقد بلغ تطرفي في ذلك حداً جعلني أرثى لأي تلميذ متفوق في الأساس أو الثانوي أرى أن تفوقه ربما أودى به لدخول كلية الطب!

لماذا يدخل الإنسان كلية الطب؟
تختلف أهداف الناس من دخول هذه الكلية، إلا أننا سنحاول أن نضع إطاراً عاماً ربما شمل جل، إن لم يكن كل، هذه الأهداف:

الهدف الأول: لأن الطب مهنة إنسانية ومزاولته خدمة للوطن و و و ... إلخ من هذا الهراء الذي أصبح لا يقنع أحداً. تتلاشى كل هذه الأفكار الوردية بمجرد خروجك من عتبة هذه الكلية أو تلك لممارسة الطب الإنساني في مستشفيات السودان اللا إنسانية. يدرسوننا أنبوبة إيقاف النزف المعوي في الجراحة، ومن كثرة التكرار تظن أنها بلاشك ستكون بالدستة في جيب أي طبيب في اي مستشفى، لتكتشف أن مستشفى الخرطوم به واحدة معطوبة، وأن مستشفيات عظيمة كإبراهيم مالك وجميع مستشفيات الولايات لم تحظ بهذه المعطوبة!
تخرج لممارسة الإنسانية في محيط عمل لا يؤمن بها، ونظم إدارية وقوانين تقتل المريض الذي لا يملك ثمن حقنة أو عملية. نصف فترة الإمتياز ستقضيها (شحذة) لدواء المريض الفلاني أو لم (شير) لمريض آخر.
بالمناسبة: رغم إنني لا أحب كليات الطب الخاصة إلا أنني إكتشفت مؤخراً أنها قد تكون نعمة من الله على عباده المساكين. أ\كر، أثناء سعينا، في لجنة الأطباء والنواب لزيادة المرتبات، أننى قد داعبت زميلة من الأحفاد قائلاً: "أنتم بلا شك في غير حاجة لزيادة المرتب وأنتم قد درستم بآلاف الدولارات" فردت بلهجة تقريرية " هو المرتب لينا؟ ما لل patients  !  
مستشفياتنا الإنسانية تسرح فيها الكدائس وتعج بالفئران. قد توبخ من ال Boss أو تطرد من ال shift لأن كديسة لئيمة قد سرقت في حين غفلة منك عينة جراحية أُخذت من مريض وأُعدت لترسل لمعمل الأنسجة المريضة. وإن أنس لا أنسى منظر كديسة رأيتها تلحس بإستمتاع بصاق مريض من الطشت المجاور لسريره. ولما لم أستطع إكمال المنظر فقد أغمضت عيني وصرخت في عبدالله الجنيد أن ينهر هذه الكديسة!

حكاية كديسية أخرى: كانت لدي مريضة إجهاض في مستشفى كسلا. وجن جنوني عندما رأيت كديسة في ركن غرفة الولادة وهي منهمكة في إلتهام ما بدا لي من بعيد جنيناً آدمياً، فرحت أطاردها كالمجنون في الردهات علّي أن أستنقذ منها بقاياه، إلى أن جاءتني الداية مسرعة لتخبرني أن ما إلتهمته القطة جنينها الذى أنجبته في غرفة الولادة أسوة بالبشر وأن مريضتنا لم تجهض بعد!
وقد كان عندنا فأر مشهور في مكتب وحدة جراحة الجامعة يأكل عشاءنا ويخيف زميلاتنا ويمشي فوق وجه أحد الزملاء وهو نائم. وقد أعلنت يوماً وأنا نوبتجي بالمكتب أنه "يا أنا يا الفار" وأن لا نجوت إن نجا. فطردته أول الليل وسددت كل المنافذ ووضعت بقربي كل الأسلحة. وقد علم الجميع صبيحة اليوم التالي من عيوني المحمرة والفوضى التي تعن الغرفة أن النصر كان لل...فأر!
ذهبت إنسانية الطب مع كبار جعلوا تذركة الدخول لمريضهم مايربو عن المائة ألف جنيه، وآخرين شيدوا للطب صروحا لا تدخلها إلا بجيب ممتلئ وحساب بنكي متخم وإلا قذف بك ناس الهدف خارجاً، وآخرين جعلوا للقادرين تذكرة دخول مستعجلة تضاعف تذكرة الدخول العادية.
هَب أنك ستسمو فوق كل هذا الواقع وستمارس الإنسانية، كيف وانت ملطوع في كشف الإمتياز شهوراً عدداً؟ كيف وأنت ضمن مجموعة كبيرة من النواب والأطباء العموميين ممن هرموا في إنتظار الوظائف؟

س: ماهي أكبر المنظمات الطبية في السودان من حيث العضوية والإنتشار الجغرافي في كل الولايات؟
ج: لا تفكر كثيراً، هي بالطبع منظمة: أطباء بلا نقود!

الهدف الثاني: دخول كلية الطب لتحقيق ذاتيتك وطموحك الشخصي لأنها أعلى الكليات في السودان، وهذا في رأيي هدف معقول، لولا إنه لا ينطبق إلا على هذه الكلية (الخرطوم) دون غيرها من كليات الطب الأخرى. ثم إن كلية الهندسة الكهربية قد أخذت منا هذا الشرف مؤخراً!

الهدف الثالث: أن تفتخر بأك قد درست في كلية خرجت كل هؤلاء العمالقة من أمثال بروفسير داؤود وبروفيسر التجاني الماحي وغيرهم من النجوم التي أضاءت سماء هذه البلاد. وهذا للأسف لا ينطبق إلا على هذه الكلية وإلى حد كبير كليتّي طب الجزيرة وجوبا, هذا ايضاً هدف ممتاز، ولكن هل هو كافي لتجلب على نفسك كل هذه التعاسة المرتبطة بالعمل كطبيب في السودان؟

الهدف الرابع: أن تطمح لأن تتتلمذ على أيدي أميز صفوة أكاديمية في السودان من أساتذتنا الأجلاء، وهذا أيضاً لا ينطبق إلا على هذه الكلية والكليات القديمة وربما بعض الكليات العاصمية، فبعض كليات الطب الأخرى لا يرى طلابها أسماء عملاقة مثل بروفيسر نصرالدين وبروفيسر سكر إلا في غلاف ال Concise، ولا يسمعون صوت عمالقة آخرين مثل بروفيسر الضو مختار وبروفيسر الكدرو إلا من خلال، طيب الذكر، برنامج صحة وعافية.

الهدف الخامس: أن تنضم إلى صفوة الطلاب المميّزين أكاديمياً: Cream of the cream الذين يدرسون الطب، وما أبأسه من هدف!! كان هذا زمااان في عهود ما قبل (الفتح!). في السودات الآن 26 كلية طب عاملة وثلاثة قيد (الفتح!)، وهو ما يساوي 25% من كليات الطب في العالم العربي.
بالمناسبة: عدد كليات الطب في بريطانيا العظمى (إنجلترا+ويلز+سكوتلندا+إيرلندا) = 27 كلية طب
شبه القارة الأسترالية: 10 كليات
كندا: 16 كلية. أي أننا، أخيراً، قد تفوقنا على دول الإستكبار!
وينتفي هذا الهدف تماماً إذا علمنا أن كليات الطب الخاصة تتساهل كثيراً في نسب القبول، ولا يهم ما تنتجه في النهاية، بسكويتاً كان أم طبيباً! فالحكاية كلها إستثمار، وليس من مشكلة ما دامت الدولارات تأتي كل عام!
هل تعلم أن بعض زملائنا المستقبليين في ممارسة المهنة يدرسون الطب بالسودان بنسبة دخول معلنة 50%؟ وما خفى كان أعظم!

أظن كفاية!

تعازي أخشى ألا تخدعكم:
قال الشافعي: العلم علمان، علم الفقه للأديان وعلم الطب للأبدان وما وراء ذلك بلغة مجلس.

قال شاعر: قل لمن بصروف الدهر عيّرنا            هل عاند الدهر ألا من له خطر
              ألم تر البحر تعلو فوقه جيف             وتستقر بأقصى قعره الدرر
           وفي السماء نجوم غير ذي عدد            وليس يخسف إلا الشمس والقمر

أخيراً: هي محاولة للسخرية من واقع بائس، أعذروني إن قسوت عليكم قليلاً!